فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ مِنْ أَشَدِّ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ بِتَعْظِيمِ الْأَنْبِيَاءِ فَوْقَ مَا يَجِبُ، وَكَانَ إِيذَاءُ الْيَهُودِ لَهُ وَسَعْيُهُمْ لِقَتْلِهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْجُمُودِ عَلَى تَقَالِيدِ الدِّينِ الصُّورِيَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فِيهِ، وَكَانَ هَذَا الْغُلُوُّ هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى قَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَشَعْيَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}. الْغُلُوُّ: الْإِفْرَاطُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْأَمْرِ- فَإِذَا كَانَ فِي الدِّينِ، فَهُوَ تُجَاوِزُ حَدِّ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ إِلَى مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ؛ كَجَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَرْبَابًا يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَهُمْ، فَوْقَ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الْكَسْبِيَّةِ، وَاتِّخَاذِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ آلِهَةً يُعْبَدُونَ، فَيُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مَعَ اللهِ تَعَالَى. سَوَاءٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَقَبُ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ، كَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى، أَمْ لَا، وَكَشَرْعِ عِبَادَاتٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ؛ كَالطَّيِّبَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْقُسُوسُ وَالرُّهْبَانُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُمْ؛ مُبَالَغَةً فِي التَّنَسُّكِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللهِ، أَمْ كَانَ رِيَاءً وَسُمْعَةً- نَهَى اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنَ عَنْ هَذَا الْغُلُوِّ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، وَعَنِ التَّقْلِيدِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ ضَلَالَتِهِمْ. فَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ قَدْ ضَلُّوا بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي الدِّينِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهِ سُنَّةَ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، فَكُلُّ أُولَئِكَ كَانُوا مُوَحِّدِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا مُفْرِطِينَ وَلَا مُفَرِّطِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا لِلشِّرْكِ وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مُنْكِرِينَ، فَهَذَا التَّثْلِيثُ، وَهَذِهِ الطُّقُوسُ الْكَنِيسِيَّةُ الشَّدِيدَةُ الْمُسْتَحْدَثَةُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ابْتَدَعَهَا قَوْمٌ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، فَضَلُّوا بِهَا، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ وَضَلَالِهِمْ.
وَأَمَّا الضَّلَالُ الثَّانِي، الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ، فَقَدْ فُسِّرَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فُسِّرَ الضَّلَالُ الْأَوَّلُ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْإِسْلَامُ هُوَ سَوَاءُ السَّبِيلِ؛ أَيْ وَسَطُهُ الَّذِي لَا غُلُوَّ فِيهِ، وَلَا تَفْرِيطَ؛ لِتَحْتِيمِهِ الِاتِّبَاعَ، وَتَحْرِيمِهِ الِابْتِدَاعَ وَالتَّقْلِيدَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ الْأَوَّلُ ضَلَالَ الِابْتِدَاعِ وَالزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ، وَالضَّلَالُ الثَّانِي جَهْلَ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَجَوْهَرِهِ، وَكَوْنَهُ وَسَطًا بَيْنَ أَطْرَافٍ مَذْمُومَةٍ؛ كَالتَّوْحِيدِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَاتِّبَاعِ الْوَحْيِ بَيْنَ الِابْتِدَاعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَالسَّخَاءِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ... إِلَخْ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ غَلَبَ عَلَى غُلَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ، وَآثَرَ أَكْثَرُهُمْ اتِّبَاعَ الْهَوَى عَلَى هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَبِمَاذَا آخَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْإِصْرَارِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ}.
عندما يوجد شيء مشترك بين النصارى واليهود يحدثهم الله بقوله: {قُلْ يا أهل الكتاب} أما الشيء الخاص فهو يتحدث به لكل فئة بمفردها.
والغلو هو أن يتطرف إنسان في حكم ما إيجابًا أو سلبًا. وهو إما الإفراط في المنزلة العالية وإما التفريط في المنزلة الدنيا. ولذلك نجد المتناقضات دائمًا في الغلو.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لسيدنا علي- كرم الله وجهه-: «يا عليّ، يهلك فيك رجلان.. محب غال ومبغض غال» ويقول: «يا عليّ لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».
ويقول: «يا علي ستقاتلك الفئة الباغية».
إن هناك من أحب سيدنا عليًّا إلى درجة أنهم اعتبروه نبيًا وقالوا: إن الوحي أخطأ عليًّا وجاء إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أو اعتبروا عليًّا إلهًا!! وكل ذلك غلو، فقد أحبّوه إلى منزلة فيها غلو وإفراط.
أما الخوارج فقد قالوا عن سيدنا علي: إنه كافر. جاء الغلو- إذن- من ناحية المحبين فجعلوه نبيًا أو فوق ذلك مما يدخلهم في الشرك، أو من المبغضين القائلين بتكفيره وإخراجه من دائرة الدين، ولذلك يجب ألاّ نغلو في الدين فلا نحب إنسانًا ونرفعه فوق مستوى البشر، ولا نبغض إنسانًا وننزل به إلى الحضيض. بل يجب أن نعطي كل واحد قدره ومقداره الذي وضعه الله فيه؛ لأن وضع الله له هو تكريمه: {قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل} [المائدة: 77].
وجاء مثل هذا القول في آية أخرى: {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} [النساء: 171].
وحتى نفهم أن مسألة الغلو إنما جاءت في ادعاءات ألوهية البشر؛ قال الحق بعد ذلك: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171].
فلا داعي للغلو بنسب الأولوهية له أو أنه ثالث ثلاثة. فإن كنتم متشككين ووصلتم إلى هذا الشك بسبب عدم عنصر الذكورة في مجيء عيسى، فافهموا أن كل الأشياء جاءت ب «كن»؛ لأنه وإن وجُدت مقدمات للإنسان، فَرَقَّ هذه المسألة إلى واحد لم يأت من إنسال، وستصل إلى آدم وآدم من تراب؛ إذن كل الكون كلمة. وإن وجدت أسبابًا فما طمره الله في الكلمة الأولى، فحين يجيء إنسان أُنشئ بكلمة فلا تقولن: إن هذا شيء عجيب؛ لأن الكون كله إنما نشأ بكلمة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
وإن كانت الفتنة قد نشأت في ظاهر الأمر من أن المسيح ليس له أب في عالم الإنسال وقانون التناسل، فما كان يجب أن تكون الشبهة في هذا؛ لأنه مخلوق من أم، وآدم مخلوق بلا أب ولا أم.
وكان يجب أن تكون الفتنة في آدم أكبر. والكلمة من الله تنشئ حياة. والحياة إدخال روح في مادة لتهبها الحركة والحس ومقومات الحياة. إذن فالكلمة تقال من الله فتأتي الروح لتدخل في المادة: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}. {وَرُوحٌ مِّنْهُ} مثلها مثلما قال في آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
إذن فآدم كلمة، وآدم روح منه، وكذلك المسيح، فلا شبهة هنا ولا شبهة هناك. ويطلب الحق من المنسوبين إلى السماء: {انتهوا خَيْرًا لَّكُمْ}. فإذا كنتم منسوبين إلى السماء فلا تذبذبوا أفكار الناس بمثل هذه المسائل، وكان يجب أن تقفوا بعيسى عندما أراد الله له من التكريم؛ لأن التكريم هو أن يكون أسوة حسنة، فلو كان من جنس آخر غير البشر لا متنعت الأسوة فيه؛ لأن الأسوة إنما تكون من جنس من يتبعها، فلو رأه الناس خاشعًا متعبدًا لما استطاعوا أن يفعلوا مثله لو كان من مادة أخرى غير مادة البشر.
وقلت مرة: لو أن إنسانًا رأى أسدًا يفترس في الغابة ويصول ويجول على الحيوانات، أيفكر واحد من الرائين أن يجعل نفسه أسدًا؟. لا. لكن لو رأى فارسًا مثله شجاعًا في حرب يصول ويجول في الأعداء فهو يقلده ويحاول أن يكون مثله. إذن فالأسوة لا تكون إلا مع وحدة الجنس، فلو أنه لم يكن من جنس البشر لما صلح أن يكون رسولًا.
{قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق} لقد جاء الحق هنا بالحديث شاملًا لكل أهل الكتاب؛ لأن كلا منهما جاء بطرفي الأمور. فاليهود اتهموا سيدتنا البتول المصطفاة مريم بما ليس فيها، وأولئك جاءوا بالمغالاة في الجهة الأخرى؛ لذلك يأمرهما الحق بعدم المغالاة؛ لأن الحق لا يتعاند؛ فهو شيء ثابت لا يتغير أبدًا ولا يتعارض. والإنسان إن رأى حدثًا من الأحداث بعينيه ثم طُلب منه أن يحكيه فهو يحكيه الآن ويحكيه غدًا ويحكيه بعد عام وتظل روايته واقعًا لأنه شهده وهذا هو الواقع المشهود يفرض نفسه عليه، لكن الكاذب لا يذكر ذلك، وقد يقول قضية ويكون فيها كاذبا فلابد أن يغير من الحقيقة عندما يحكيها لمرة ثانية. ولذلك يقال «إن كنت كذوبًا فكن ذكورًا».
إن الذي يحكم الحق هو واقعة؛ لأن المتكلم به يستقرئ واقعًا. لكن الكاذب لا يستقرئ واقعًا فلا يعلم ماذا كذب في المرة الأولى. ونذكر الكاذب الذي جلس يقول: مرة كنا سائرين وخرجنا من القرية ذاهبين إلى المدينة لنأتي بحاجات عيد الفطر. وكانت الدنيا قمرًا كالظهر وقوله: «قمرًا كالظهر» هي التي تكشف كذبه، فكيف يكون في ليلة العيد قمرٌ، وأول ليلة في عيد الفطر هي أول ليلة في شوّال، وليس فيها أي قمر، الهلال يكاد يكون مخفيًا.
إذن فالذي يستوحي واقعًا لا يتغير كلامه لأنه حق. والذي يستوحي غير الواقع لا يذكر ماذا قال فيخلط. لذلك لا يقولن إنسان غير الحق لأن قوله سيتضارب. وإذا تضارب هذا القول في مسألة الألوهية فإن الناس قد تشك في منهج السماء الذي يتبعونه. وإذا شك الناس في منهج السماء فسيكون عليكم وزر إضلال الناس؛ لأن الذي يتعرض لهذه القضية يجب ألا يجرب الناس عليه أي شيء من المخالفة. ولذلك قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [الممتحنة: 5].
لماذا قال سيدنا إبراهيم هذا الدعاء؟؛ لأنه إن قال شيئًا ثم عمل بما يناقضه فقد يتصور من يراه أنه- والعياذ بالله- كذاب.
{قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل} ويا ليتهم ضلوا فقط في ذواتهم بل هم يحاولون إضلال غيرهم. لذلك قال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109].
وسبحانه يوضح لهم: لا تفعلوا ذلك حتى لا تضلوا؛ لأن وزرك أن تعمل، وهناك وزر آخر هو أن تُضلِّل غيرك. ولذلك يقول الحق: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
قال الحق ذلك مع أنه قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. حتى نفهم الأمر علينا أن نعرف أن الوزر الأول هو وزر الضلال؛ والثاني هو وزر الإضلال.
{وَلاَ تتبعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ} أي لا تقلدوا أناسًا اتبعوا الهوى. والهوى هو لُطف موقع الشيء وقربه إلى النفس فيصنعه الإنسان على طريقة لا تنبغي. ولذلك كل كلمة «هوى» في القرآن جاءت في مجال الخسران والضلال. وعندما نقرأ قوله الحق: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله}.
وهو القائل سبحانه: {واتبع هَوَاهُ فتردى}.
وقد جاء الهوى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
أي المطلوب أن يطوِّع الإنسان هواه لمطلوب الله. وما دام قدْ طوِّع هواه لمطلوب الله، فهذا يعني أن هواه الشخصي قد امتنع. {وَلاَ تتبعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل}. إن هذا هو النهي عن اتباع الهوى الذي يضل ويكون سببًا في الإضلال عن سواء السبيل. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {لا تغلوا في دينكم} يقول: لا تبتدعوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {لا تغلوا في دينكم} قال: الغلو فراق الحق، وكان مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولدًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: قد كان قائم قام عليهم، فأخذ بالكتاب والسنة زمانًا، فأتاه الشيطان فقال: إنما تركب اثرًا وأمرًا قد عمل به قبلك فلا تحمد عليه، ولكن ابتدع أمرًا من قبل نفسك وادع إليه واجبر الناس عليه، ففعل ثم ادّكر من بعد فعله زمانًا فاراد أن يموت، فخلع سلطانه وملكه وأراد أن يتعبد، فلبث في عبادته أيامًا فأتي فقيل له: لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك، ولكن ضل فلان وفلان في سبيلك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة، فكيف لك بهداهم؟ فلا توبة لك أبدًا، ففيه سمعنا وفي اشباهه هذه الآية {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا} فهم أولئك الذين ضلوا وأضلوا أتباعهم {وضلوا عن سواء السبيل} عن عدل السبيل. والله أعلم. اهـ.